خطوة جديدة.. خطوة مرتبكة.
صورة من ذاك الحضور الذي يتشكّل حضوره في تلك الديار - مرآة تلك العين
التفكير، ذاك الحضور الذي يشير إلى حضور الوعي بحضوره، يسير في اتجاه إشارة مؤشر أعمق. يسير في إتجاه ليس هو بالخيار السائد في دروب الحضور الذي حضر ابتسامة تلك التي ابتسمت، فما بالك إن أصبح هذا مآل فعل اليوم، والساعة، والدقيقة من ساعة ذاك الذي أول حضوره سلك سهل إشارات تلك التي ابتسمت، وتغافل سابق حضوره عن إشاراتها الأخرى التي إلى ذاك الأفق المحدق تؤشر. في قراءة ظاهر رسم إشارتها هو يجري في الإتجاه الآخر
لمسار الإشارة التي تشير إلى العمق الأعم، بهمّة وبأقصى سرعة ممكنة - ولكن النتيجة الحتمية محسومة نهاياتها لمن لمح إشارة الطريق في أول طريقه وقرأ رسالتها فوهنت حيلته - السؤال كان دائما كيف لهذين الخيطين المتنافرين أن يلتقيا في نقطة سلام. نقطة التقاء تدثّر بالسكينة الحضور البشري الذي وعى حضور العمق الأعمق كموعد صادق في ساعة وعده من دون هدم الدار على رأسه بل والسعي إلى رفع سقفها، أن
يراه نهاية حضور مغادر وبداية حضور قادم. ذاك الذي يقوى حضوره على الحضور بكامل وعيه يعيش حالة التقابل والحضور الذي ليس يحمل من معنى
سوى التحديق في عيني العمق الأعم، الوعي بحالة العمق الأعم، العيش في مساره،
القبول بحالة العمق الأعم، والعيش فيه رغم وعيه لذلك وبحضور يبتسم لتلك التي ابتسمت كذلك. ذاك الذي وعى لحالة عدم
وعيه، استيقض من سباته في طريق هروب حضوره من صادق الموعد ووجد طريق الإستمرار في
فعل التحديق فعل جديد، بالنسبة له ما هو متعب وصعب في دار من وهنت حيلته، استحال دائرة راحة محلّقة في جمالها! هل لهذا هناك
صعوبة في تقبّل هذا اللون من الحضور كحضور أساسي في شائع حياة البشر سأل نفسه - التحرك بوعي وليس بهادم في إتجاه العمق الأعم، الإقتراب من أفق دائرته بنفس الهمة الأولى، ولكن بوعي قرر عدم الوهن أمام حضور وعيه الجديد.
***
لا يمكن وصف حالة الوعي بالعمق الأعم وإن لم نخرج من نطاقه أبدا، ولكن يمكن ادراك وجوده عبر ذاك الحضور
الذي إليه دوما يشير حضوره، حضور الدار المؤشرة التي إلى حضوره تشير، وبذلك تعطيه حيز حضور في الوعي - عبر التحديق في اتجاه ما يؤشر إليه التفكير نفسه في هذا الوعي. التفكير هنا،
يصبح تمثيل وتجسيد لما إليه يؤشر ذاك الحضور - لا يمكن التفكير من دون تمثيل من دون تجسيد.. من دون تفسير. التفكير هنا
كقراءة للحضور الذي يؤشر إلى حضور العمق الأعم يمثل محاولة اقتراب! العمق الأعم يقترب من الوعي به في اللحظة التي يبتعد عنه، يقترب بسبب كونه حتميّة ويبتعد عبر جعل الوعي به يخفي ملامحه من ذاكرة وعي الإنسان،
عبر فتح أبواب الإنهماك في دروب ألوان الوعي. التفكير هنا يبدو وكـأنه سلك الإتجاه الآخر.. يبدو أنه قرأ إلإشارة الأخرى لتلك التي ابتسمت.
***
الوعي بالحياة أفق سطح و"شيئ" من عمق. حالة كوانتمية من جهتنا متداخله احتمالاتها! التفكير في اتجاه ذاك الأفق، صوب المؤشر الذي حضوره إلى العمق الأعم يشير،
هو اقتراب من دائرة أفق دائرة، تدعونا إلى كشف حضورها، إلى الإقتراب من خيوط صفحتها المطوية أفقها خلف حجاب الوعي. العمق الأعم يشدّ إشارة التفكير، يحرف مسار الذي حضر حضوره نحوه عبر جعل
حضوره مادة للتفكر في فكر الإنسان - عبر حفر خندق في ذاكرته يؤشر دوما إلى حضوره. العمق الأعم يجذب الإنسان إليه عبر زرع نفسه في
ذاكرة الإنسان الذي تدعوه إلى التفكّر والتذكّر في العمق الأعم ذاته - الإنشداد
إليه. طبيعة
فعل التفكّر ليست في التفكير مركزها بل في العمق الأعم الذي
يشد ذاك الفعل إليه. الدعوة الى التفكّر تقع
خارج مركز تفكيرنا! الحضور الذي حضر حضوره يمثل حالة تعي دخولها إلى حيز الوعي بإشارته ولكن العمق
الأعم يشمل هذا الحضور الذي وعى لنفسه، يخفيه داخل نفسه عن نفسه!! الوعي تقابل
واقتراب مع الحضور الذي حضر جانب من حضوره - ذاك الذي انكشف جانب من أمره. مثول وامتثال متبادل - التفكير: وعي به. كيف يمكن التفكير في العمق الأعم من دون تلويثه بألوان دائرة الوعي،
من تفسيره، من دون تشويهه - لا يمكن ذلك
بصورة تامة. لكن عبر الإقتراب من أفقه الذي أقترب حضوره إلى أقصى درجة ممكنة من دون تمثيله، من دون النطق
به؟ ربما عبر الاقتراب من أقرب نقطة البداية، عبر الإقتراب من أفق حد الأصل.
***
يجب إعادة اكتشاف معنى الإشارة.. إعادة تقييم معنى الهدف منها.. "العلم" اليوم محكوم
بالسببية العقلانية التي لا يمكنها رؤية حضورها في الدار التي حضرها جانب من حضور الأعمق الأعم. من المهم اعادة اكتشاف معاني المفردات
وجذورها وأصولها في دارنا العلمية القديمة . اليونان القديمة فكرّت من خلال لغتها، منها حصل أهل دارها على صورة عالمهم الأكبر: أفقه وصورته التي إليه تشير وحضورهم حضوره. بعد جريمة السبات لا يمكن كخيار وعى لنفسه أن يتغافل ويسير خلف ذاك الذي وعيه يحدق إلى مسار خاطئ يتعاظم شأنه وتكبر فتنته! الفكر الغربي المعاصر السائد يقوم على صحة فرضية كون الإنسان
ذات خالقة، والأشياء
من حوله موضوع لها؛ نوع من العمى الذي تخدع الوانه صاحبه. الفكر
الغربي أخذ من دارنا اسباب جانب من الحضارة وغفل عن ما هو أهم ليبني "نهضته" الحديثة. لنا
اليوم أن نتأكد من مآل هديتنا المسمومة التي تدحرجت إلى عمق دارهم من جديد وأن نضع نفسنا أمام أفق أنفسنا لرسم صورة قادم مسيرنا. المنطقية السببية كأفق حاكم أخذها وعالمها أولا من قام بفعل
الترجمة للتراث اليوناني القديم ممن هم في دائرة دارنا. أخذ جانب من الذي انتصر حضوره هناك (سببية أرسطو) وغفل عن الرأي الآخر الذي توارت صفحته إلى ظلام دارهم. كما فعل ابن رشد في جانب من حضوره على الأقل، عندما خلط بين أولويات الأفق في دارنا وقال: "إن من رَفَعَ الأسباب فقد رفع العقل، فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ورافع له". علينا عدم
الإنجرار خلف دائرة ذاك التيه الذي أضاع طريقه في دارنا قديما، وبدأ يتسلل إليها من جديد بثوب يبدو جديدا ولكنه لباس قديم!
***
هناك من يقول أن طرفي المعادلة الرياضية التي تصف الحضور الذي حضر،
يحذفان الحاجة للسببية التي تقف عليها المعادلة الرياضية كقاعدة! بمعنى أن الفكرة تقتل
فكرتها! القوة تتقوى مثلا، ما معنى ذلك؟ أين الفاعل وأين المفعول به؟ القوة تصبح
قوة أكبر، والقوة تصبح أقل قوة. الفاعل والمفعول واحد يندمجان في الفعل لولا حاجب الوعي! لنفهم نحتاج إلى وعاء، إلى نظام، إلى مرجعية، إلى إطار لنضع فيه الفعل
والفاعل والمفعول به. إلى سببية لرسم ألوان الوعي في دارنا. لو افترضنا أن الزمن
الذي نعيه كمفهوم هو نتاج طبيعي لمفهوم السببية في وعينا، وبالتالي يمكن
حذفه، هل يمكننا في هذه الحالة تخيّل ماذا سيحصل للمعادلات الرياضية التي تعتمد
على الزمن لرسم صورة للعالم (الرياضيات الطبيعية مثلا). ما السببية في دارنا؟ من معاني كلمة سبب: حبل، وطريق. الغزالي
مثلا "ينفي ضرورة التلازم بين الظواهر وأسبابها التى يقوم عليها العلم ويسند الأمر إلى تقدير الله , إن شاء وقعت الظاهرة وإن لم يشأ لم تقع ."، وفي ذلك يقول "..إن الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سببا، وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا...".
***
فعل التكاثر تشبث بالحياة - الحياة تحاول عبر أمواج بحرها المتتابعة محو
ذاكرة مؤشر من ذاكرة الإنسان عبر إخفاء ملامح دائرة العمق الأعم عن ساكن دائرتها، عبر جعل المؤشر إليه ثقيل على القلب والعقل معا. التفكير في الحضور الذي حضر جانب من حضوره، مقدمة لإعادة رسم معالم مؤشر الذاكرة التي تميل يد تلك التي ابتسمت إلى طمس معالمه، بحيث يعيد إشارات الذاكرة إلى العمق الأعم. في فعل التكاثر الحياة تحاول حرف السهم صوبها!
وعندما يصبح فعل التفكّر حضور يتقدم صوب الإقتراب من
العمق الأعم بمثل ما يفعل فعل التشبث عندما يقابل الحياة الذي يتجه إليها بثقة كفعل
يغطي دوافع اللاوعي البشري الذي يهرب من العمق الأعم، تصبح طبيعة التفكير توجّه نحو العمق، وتجرّد
من قشرة الوعي وتمسك بتلك القشرة في آن واحد. ولكن التفكّر ينسى مغزى فعله غالبا فيميل لطلب العون من سببية تعينه على رسم معالم تفسير تنسيه، إشارة الحياة الأخرى كفعل يؤشر أيضا لعمقه. طبيعة الإنسان
في العمق الأعم تجد جذورها وأصلها. التاريخ البشري يخفي أصل الإنسان عن نفسه يطمس
معالم عمقه عن وعيه، يجعله يؤمن بالسببية، يدفعه إلى الاستنجاد بعقل المنطق، الذي
يدفعه إلى تصور الحياة ككيان يمكنه الإنفصال عن العمق الأعم، وبالتالي يغريه بإمكانية وضع منطق يفهم جانب العمق الذي حضر حضوره كموضوع مفصول، بإمكانية أن تحدث تنحية لذاك العمق عبر جعله في الجهة الأخرى المقابلة موضوع يقبل الخضوع. هذا غطاء سيكولوجي
يخفي دوافع ألوان غريب الفعل في جوانب لا تعد ولا تحصى في دار البشر! غريزة خفيّه في مسارات
الفكر البشرية تتخفى ألوانها خلف مظاهر أسباب لا تطل برأسها علانية .
***
أصل الحياة عمق. والحياة، مشوار العودة إليه، إلى الأصل، إلى العمق
الذي يحيط حدوث الوعي به، قبل وبعد وعي الإنسان لنفسه. أصل الإنسان في العمق يقبع. العمق
نراه كذلك بسبب حضور الإنسان كحضور يشهد، كحالة وعي، كحالة تحجب ما خلفها. العمق الأعم
كفهوم غير مفهوم في دار الوعي، حقيقة الثاني مخفية في
الأول. التفكّر هنا يأخذ لون الشكر على القدرة على الشكر، الشكر على القدرة على التفكير،
الشكر على القدرة على الوعي، الشكر على القدرة على الوعي بالحياة، على الحياة! الاقتراب من ذاك الأفق حاجة فينا تدعونا للإقتراب من حدوده ولكن لا يمكن إدراك معناه حيث أنه يبتعد منا بفعل الاقتراب منه من قبلنا وإن يظل مع ذلك قريبا.
عمق العمق لا يُدرك! العمق الأعم، ما لا تدركه دوائر وعينا. الوعي بالحياة هدية حضر حضورها كمؤشر إلى حضور العمق
الذي في حضوره دعوة إلى شكر فرصة الوعي به من خلال عقل الإنسان
الذي سيدرك أنه يعيد الهدية إلى مصدرها برضى لكونه أُعطي فرصة رؤية هذه
الفرصة. فرصة حضور الحضور قبل العودة إلى الحضور الأعم!! بمعنى العودة إلى الأصل
الأعم. العمق الأعم الذي حضر جانب من حضوره يمثل رؤية صورة اسمها الوعي بالحياة،
مرآة اسمها الوعي! وعي لن يدرك ابدا ماهية العمق الأعم وهو في حالة وعيه لحضوره!
***
في
بعض من هذا معالم فكر صوفي عقلاني جديد يتشكّل وعيه في دار الغرب، شاعرية
فكرية لخاصة قومهم، تعيش سحر الحضور وتتصالح مع يقين العمق الأعمق الذي يتوارى أبدا في دار
الوعي مع كونه قريب دائما منها.
زكي مبارك