تعددت في الآونة الأخير المقترحات الدولية والإقليمية المتعلقة بكيفية حل المشكلة العراقية التي نتجت عقب احتلال العراق وانهيار أركان الدولة العراقية، وغلب على طبيعة أكثر هذه المقترحات الجانب الانتهازي الذي يسعى لرسم معالم مستقبل العراق بأسلوب يتوافق ومصلحة الطرف الذي يقوم بطرح مثل هذه المبادرات، حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة العراقية الوطنية. ولنا في قرار الكونجرس الأمريكي الرامي إلى تقسيم العراق، وتصريح الرئيس الإيراني أحمدي نجاد عن استعداد إيران لملء الفراق في العراق دليل على هذه الانتهازية السياسية السافرة.
من الناحية المبدئية، من الضروري التأكيد أن غزو العراق كان خطأ فادحا، وأنه عزز ميول التطرف والتشدد في عالم اليوم، وأضر بمصالح أطراف دولية عديدة في المنطقة العربية. لقد كان الرأي السائد على مستوى الرأي العام العالمي قبيل بدء الاجتياح الأمريكي للعراق يميل بشدة تجاه رفض هذا العدوان الإجرامي، الغير مبرر قانونياً على دولة عربية مستقلة ذات سيادة ومعترف بها دولياً. ومن المهم التذكير أن أغلب المؤشرات التي صدرت من قبل الجهات المحايدة والموضوعية بخصوص مخاطر الغزو الأمريكي قد حذرت من عظم المصيبة وشدة الكارثة التي ستقع على رأس أهل العراق وعلى رأس من سيدخل في مغامرة احتلال هذا البلد، ولقد أثبتت الأحداث والتطورات التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق وسقوط بغداد في التاسع من ابريل عام 2003 م، صحة الرأي الذي وقف ضد هذه الحرب المأساوية.
لقد استهانت الإدارة الأمريكية بقوة العراقيين كشعب لديه الكثير من العزة والكرامة، وكأمة أبية لا ترضى الذل، ولها تاريخها العريق الذي لا يمكن تجاهله، وأخطأ الأمريكان عندما اعتمدوا بمنطقهم المبسط على قوتهم وجبروتهم فقط وأقنعوا أنفسهم بضآلة الحجم العسكري والجغرافي للعراق وتناسوا كل العوامل الهامة الأخرى. لقد دفعهم غرورهم وطمعهم بثروات العراق تجاه مغامرة الحرب والحل العسكري البحت.
الآن وقد مر ما يقارب على الخمس سنوات منذ بدء الاحتلال لبلد الرشيد ولعاصمة الخلافة العباسية، ولم يتبقى سوى أشهر معدودات على مغادرة الرئيس الأمريكي لسدة الحكم في البيت الأبيض، نرى أن الولايات المتحدة ليست في وضع يمَكنها من إعلان الانتصار الفعلي على الأرض العراقية، ونستشعر عظم المأساة التي جرت على أهل العراق وعلى مستقبل الدولة العراقية. لقد تحول الاحتلال بالنسبة للرجل العراقي البسيط إلى سلسلة ممتدة ومتواصلة من الاهانات الشخصية تصفعه على وجهه وعلى مرأى من أهله وأطفاله في صباح كل يوم، وتعيقه عن كسب قوته، وتلاحقه في أحلامه وكوابيسه. هذا الأمر بالتأكيد يفيد الجماعات المتطرفة والمتشددة التي انتهزت الفرصة المواتية لتوسيع نفوذها والعمل على توسيع دائرة مؤيديها في العراق. هؤلاء المتطرفون لم يكن لهم وجود قوي في العراق قبل فترة الاحتلال، ولكنهم الآن موجودون هناك ويعملون بجد وبلا كلل على بناء تنظيماتهم في عراق ما بعد الاحتلال.
إذا هناك حاجة ماسة لدى كل الأطراف المعنية بالشأن العراقي للنظر في سبيل للخروج من هذا المأزق الذي وقعت فيه الولايات المتحدة والذي ستنعكس تداعياته على عموم المنطقة في السنوات القادمة إن استمر الوضع على ما هو عليه. هناك أمر جوهري يجب إدراكه وهو أن الحل يجب أن يكون في أيدي العراقيين أنفسهم، وليس في أيدي دول وجهات غير معنية مباشرة بمصلحة العراق ككيان مستقل. بالطبع هناك حاجة ملحة لمساعدة مباشرة من قبل المجتمع الدولي، وذلك من خلال الاستعانة بالأطر الدولية المناسبة والتي ستساعد العراقيين على تحمل مسؤولية ما يقومون به في بلدهم.
لقد تبين الآن أن الولايات المتحدة عاجزة عن أيجاد حل دائم لمشكلة العراق، وأن العراق لا يمكن تجزئته بمنطق القوة من قبل أمراء الحرب وتقسيمه بينهم كغنيمة حرب، وثبت كذلك أن التيار العروبي في هذا البلد لا يمكن هزيمته من قبل الولايات المتحدة وعملائها هناك، وعليه يجب الاعتراف بحق كل المكونات الرئيسية الفاعلة في العراق في المشاركة في تحديد مصير العراق بما يتوافق وموازين القوى التي اتضحت وترسخت على أرض الواقع العراقي.
هذا أمر بالغ الأهمية يجب الاعتراف به قبل البدء في الخطوة التالية وهي إعطاء العراقيين القدرة على حكم أنفسهم بأنفسهم وذلك عن طريق مساعدتهم في بناء قوات عراقية وطنية قادرة على التعامل مع القضايا الأمنية بمعزل عن التدخلات الأمريكية المباشرة والتأثيرات الإقليمية، والميول والمصالح الحزبية الضيقة، مع الأخذ بعين الاعتبار موازين القوى الحقيقية على الأرض. أن تجاهل هذه الحقيقة واستمرار الآليات الحالية لن يقودنا إلا إلى استمرار الدوران في الحلقة المفرغة لسنوات طوال قادمة.
في هذا الإطار يتحتم على الولايات المتحدة العمل ومن تحت مظلة الأمم المتحدة والشرعية الدولية على تحديد اطر زمنية للانسحاب من العراق وتوثيق هذا التعهد عبر قرارات دولية تجعل من هذا الأمر حقيقة وواقع ملموس بالنسبة لكل الأطياف العراقية الحليفة للولايات المتحدة والمعادية للوجود الأمريكي. هذا الأمر سوف يدفع كل الأطياف العراقية المتناحرة على تحمل مسؤوليتهم تجاه العراق وتجاه أنفسهم، ويوجههم نحو الاقتناع الجدي بضرورة المصالحة الوطنية الحقيقية والاعتراف بالحاجة الماسة لحل مشاكل العراق العالقة، وسيدفع كافة الفصائل العراقية المسؤولة للعمل بوتيرة سريعة في اتجاه بناء العراق الموحد والقادر على الدفاع عن نفسه تجاه الإطماع الإقليمية والدولية.
من الضروري إعادة التأكيد على أن تفاصيل إستراتيجية هذا الحل لا يمكن تركها في يد الولايات المتحدة لوحدها وذلك لأنها جزء من المشكلة في العراق، وعلى ضرورة الإلحاح على أهمية اتخاذ هذه القرارات على مستوى الأمم المتحدة وفي ظل الشرعية الدولية.
زكي مبارك
القدس العربي 10 -2 -2008