الداروينية
الحقيقة العلمية في أفضل الأحوال لن تتجاوز كونها تفسير مؤقت في سياق ما سبق تصوره من تفسير، وما تم بناءه
من تأويل لنواتج أدوات القياس التي من خلالها استرشد العقل البشري وما زال يسترشد
سبيل بحثه عن بحثه! الشرح والتفسير لغتها وبيانها وليس اليقين.
البقاء للأفضل عبر منظومة الإنتقاء الطبيعي – في عالم الحيوان يمكن أن يُقبل هذا القول واختياره كتفسير للمشاهدة ونواتج البحث، ولكن عندما يتعلق الأمر بالإنسان فإن التفسير يعاني من تناقضات عديدة، فالإنسان من الناحية الفسيولوجية البحتة ليس بأفضل المخلوقات وفقا للمقياس الدارويني عندما يتعلق الأمر بالقدرة على التأقلم أو البقاء في الظروف المناخية الصعبة مثلا، أو التنافس البدني المباشر، مقارنة بقدراته العقلية الكبيرة جدا والمتفردة في نوعها. في سياق هذا المنظور يبدو أن تطوره العقلي جاء على حساب تطوره الجسدي، إن اعتمدنا التفسير الدارويني الذي يبجّله رجل العلم المادي اليوم، وهذا أيضا إن افترضنا لمفهوم التطور أنه سير في خط له منطقه في محصلته النهائية، وهو ليس بالضرورة كذلك - يوجد ما يدل على أن التطور لا يسير من الأسفل إلى الأعلى ومن الأضعف إلى الأقوى، بل أنه يعمل عكس ذلك! ولكن الإنسان وبفضل عقله وقدرتة على الصنع بيديه والنطق وانتصاب القامة يتربع على قمة الهرم السيادي بين الكائنات الحية وبدرجة تتفوق على أقرب منافسية في المنظور الدارويني الميكانيكي والتراتيبي، بدرجة تكاد تجعل من أمر الهرميّة سياق خارج السياق وحشر لأمر لا علاقة له بما يحاول علم الأحياء اليوم تصنيفه وترتيبه وفهمه. هذا التفوق ليس بسبب تطور عضوي جسدي بحت بقدر ما هو أمر متعلق ومرتبط بحساسية عاليه جدا للمؤثرات الخارجية التي يبوح بها المحيط المحسوس والبيئة الحاضنة، وكذلك للمؤثرات الداخلية المتمثلة في القدرة على التصور والتأثر بالتصور والخيال والمحاكاة كدافع لتغيير الوضع الفعلي المعاش ضمن إطار الوعي والإدراك. وبالتالي يمكن القول إن الإنسان كشيئ حي يخضع في المقام الأول والأساس لمنطق التنافس مع عقله ومحاولة التفوق على قيود وعيه عبر تخيل حدود جديدة يسعى لتجاوزها عبر قدرة الإبتكار والخيال و الإبداع ضمن حدود مرآة وعيه. كل هذه الأدوات إن صحت التسمية تسمح له بالتفوق والسيطرة والتحكم في المقام الأول وليس البحث عن سبل البقاء عبر استخدام خاصية الغريزة، التي يبدو أنها الدافع الرئيسي في تنافس بقية الكائنات الحية مع محيطها المماثل لها في النوع أو مع الكائنات الحية الأخرى المنافسة أو مع ظروف الطبيعة الغير ملائمة.
ما يميز الإنسان عن الحيوان ليس الغريزة ففي البعد الجيني مثلا، هو مشابه لبعض الحيوان، ولكن ما يميزه وبشدة تكاد تكون حصرية هو قدرته على التفوق على حدود ومقيدات الغريزة عبر تخيل عالم خارج حدود أسوارها ومن ثم العمل الواعي على الوصول إلى هذه الحقيقة المتخيلة، لجعلها حقيقة معاشة ملموسة بالإستعانة بالقدرة على النطق والصنع والعيش في مرآة الوعي. في هذا يبدو أن الإنسان يسلك طريقا مختلفا غير معقود على التخرصات الداروينية الحديثة وغير مربوط مع ما يحاول العلم المادي ربط ماضيه به. هذا التفسير يلقي بظلال من الشك على التفسير العلمي المتعلق بنظرية النشوء والتطور كآلية لفهم الإنسان من خلال المنظور الغربي المادي الذي يحاول نفخ الروح في رؤيته المادية بكل السبل والطاقة الإصرار وبصورة تكاد تطيح بهذا المسعى من قاعدة البحث العلمي وتدخله في نطاق الأيديولوجيا التي لا تتواني عن لوي عنق الحقيقة في سبيل فرض امر تصورها على كل من حولها.
الإنسان في تغيير ... نعم ... ولكنه مع
نفسه وضد نفسه وفي منافسة لنفسه وليس بسبب صراع مع حيوان يشاركه دار ريادته وتميزه. معضلة الوعي وسر الإدراك يمثلان بالنسبة لمفهوم الإنسان صورة أكبر من التصور الممكن ادراكه عبر المفهوم الفسيولوجي البحت والمحسوب من ناتج مكوناته الأصغر - حيث أن حاصل جمع مكونات الإنسان أصغر من مجموع مكوناته كنظام وكيان! هذه الحقيقة أو التفسير أو المشاهدة – سمها ما شئت –
تقول أن الإنسان كيان يعي ذاته بصورة تجعله مختلفا عن كل حيوان يمكن أن يصفه
العلم من الناحية البيولوجية كقريب قديم، حيث أن تشابه القوالب هنا لا يثبت شيئا بخصوص أصل الإنسان بصورة يقينية سوى أن التفسير
العلمي في هذه الحالة يثبت وجود نسق يعزز من فرضية الترابط الكوني الدال على نظام عام شامل يمكن ملاحظتة على ضوء التفسير والتصور البشري القاصر.
ما معنى أن نجعل من نظرية التطور مقياسا لمحاولة فهم البشر.. عندما نجعل من ذلك مقياسا للمنطق فإننا وبكل بساطة ننزع المنطق من ذاته.. حيث أن ما يقوم به العقل الواعي وكذلك الباطني يمكن تفسيره على أنه إجراء يهدف في الأساس إلى حفظ النوع عبر اختبار واختيار أنسب الطرق التي تضمن استمرار الحياة والمعيشة.. وفي هذا يبدو أن الهدف واضح والسعي يعي نفسه - لمن أراد كشفه!هذا بالنسبة لأغلب الغالبية أمام اقلية مؤثرة وراسمة لخط المسار البشري تجد في هذا قاعدة يقف عليها بناء أكبر له منطقه وآلياته وفهمه لا يخضع لمفهوم قانون النظرية الداروينية. ما لا يستطيع هذا الإطار الدارويني تفسيره هو أن أفضل وأقوى بني البشر هم دائما في موضع خطر الإبادة أمام مجموع الطرف الأضعف وبالتالي لا يعود لكلمة أفضل من معنى سوى النجاح في البقاء بأي طريقة كانت!
واذا اعتمدنا التفسير الدارويني فإننا يجب أن ننتهي في بحثنا العكسي إلى خلية واحدة لا تعي نفسها ولكنها قامت بعمل (هادف غير واعي لنفسه) هو السعي إلى التكاثر والزيادة والتقدم، والدخول في متاهات التجربة بين الحياة والموت، ومن أن هذا الاحتمال تعزز بصورة حرجة في فترة معينة بحيث أصبح العمل الغير منطقي منطقيا يهدف إلى مزيد من التقدم والصعوبة والتعقيد والتشكل وكأن هناك هدف للحياة. وكأن الحياة وعت قوة الحياة فأخذت على عاتقها السعي على تعزيزها في فعل أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه سعي واع لنفسه ويعرف مصيره، ومن أن له غاية وله وسيلة وبالتالي هناك نظام وجد نفسه يخرج من عدمية صماء إلى منطقية تسعى بكل السبل إلى تعزيز منطقها، وهو الحياة والاستمرار بالحياة حتى بلغت ذروتها بالوعي لنفسها – متمثلة في الإنسان – ثم محاولة التفوق على نفسها والخروج من قيود نفسها بصورة واعية عبر وضع أسس الفكر والأخلاق وكأن الحياة أصبحت كيان يستطيع أن ينظر إلى نفسه خارج نفسه فيصور البدائل، ومن ثم يبدأ الشروع في التحول الواعي لتبعات سعيه.اذا من اللا منطق دخلنا دائرة المنطق وكأن هذا العمل النظامي وجد نفسه صدفة بعد كل الصدف التي سبقت الوصول إلى العقل الواعي لنفسه!
زكي مبارك