العقل كنظام يدرك دلالة الترتيب والاتساق
مكونات نظام ما لا تدل على هدف النظام وغرض
منهجه، لا يمكن لها أن تفصح عن ماهيته. الحروف المنفردة والغير مترابطة والمبعثرة لكلمة
فكك جسدها إلى مكوناته الأصغر لن تدل على معنى الكلمة أو ما يدل عليه اللفظ من
هدف، أو غرض نظامها وفحواه ومضمونه. المكونات ذاتها لن تدل على مفهوم ما ومعنى كلي إلا في حالة تفسير النظام ككل على أساس أن له هدف محدد أو معاني مفهومة ومدركة من خلال بنائه الكامل. الحروف هنا لا معنى لها بحد
ذاتها من دون نظام يضمها ويعطي لها تصور يجسدها، وكل ما يمكن الحصول عليه في حالة
النظر إلى المكون الاصغر بمعزل عن المكون الأساس هو احتمال لا يدل على وجود، أو على
معنى، أو على مفهوم، ولكن إحتمال وإمكانية وجود لنظام له معنى يدل على مفهوم وتصور.
لا يمكن فهم جل مفاهيم اللغة والإدراك والوجود إن تم تفكيكها إلى أقومة وأعمدة
منفصلة ومبعثرة، والأمر نفسه مثلا مع مفهوم الحياة.
عقلنا يدرك نتاج الأنظمة - حالة وعيها، وليس
بالضرورة حالة لا وعيها المتمثلة في الخطوات الصغيرة التي تترابط معا وتتداخل وتدفع
في طريق خلق النتاج نفسه. العقل يدرك المعنى والمفهوم وليس بالضرورة ما يكنه من
مكونات، وعملية الإدراك نفسها لا تدل على إثبات وجود بقدر خلق فهم لتفسير مفهوم ضمن
إطار محدد ومقيد.
في ظل محدودية الفهم هذه، ما يهم هو ترابط
التفسير وتماسكه على هيئة كيان يمكن الإيمان به، وليس السعي نحو الحقيقة اليقينية بالمعنى المتعارف
عليه، فالحقيقة هنا مجرد تفسير لمجسات وعينا وخطأ قراءاتها لما حولها وداخلها. ترابط
التفسير يعين على محاولة الاسترشاد عن طريق الرموز (الخطأ) في محاولة لإيجاد طريق
للرقي من خلال بعث معنى في الخطأ كنظام يهدف إلى غرض ما. الحياة في ظل مرآة العقل مسيرة تفسير وليس بحث عن
حقيقة يقينية متوهمة في دار غرورنا ووهن حيلته.
العقل كتفكير واستدلال لا وجود له بحد ذاته،
والنفس كذلك من دون البدن لا وجود لها، والروح من دونهما لا وجود مدرك لها، أو لا يمكن
إثبات وجودها في ظل غياب الجسد والعقل. أساس الادراك هو تفسير قائم على
مفهوم الأنظمة التي تعمل لهدف ما لا يمكن تفكيكه إلى مكوناته الأصغر من دون فقد
غرض النظام نفسه ومعناه وماهيته. الحياة مفهوم لا يمكن تصوره إلا على مستوى نظامه
المتكامل الهادف إلى غرض ما، والأمر نفسه بالنسبة لمفاهيم مثل الوعي واللاوعي وغيرها مثل الحب والعدالة... لا وجود لهم بحد ذاتهم من دون ذات تدركهم، من دون نظام
هم نواتجة ومخرجاته وثمراته.
زكي مبارك