الفراعنة... موت ثقافة حاكمة
لماذا اندثرت حضارة الفراعنة وخربت دارها وانهدمت بالرغم
من ذكائها وتقدمها بالنسبة للحضارات الأخرى التي عاصرتها وعاشت بجوارها على سلم
الزمن مثل اليونانية ، والهندية، والصينية، وما بين النهرين. ماذا أودى بحياة ثقافة
مصر القديمة وقيمها؟
انتهاج قيم حكم المرأة في الثقافة المصرية القديمة
وحضارتها على مستوى الطبقة الحاكمة وخصوصا في مراحلها الأخيرة جعلت منها حضارة
تسري في دمائها حاكمية قيم الأنوثة، بعقلها تحكم وبروحها تتسيد في وعي ثقافة
الحضارة ومرآتها. في هذا الفلك المقلوب فطرة تخضع نوازع الرجولة وتتوارى قيم الحرب
والقيادة المقاتلة في الصفوف المعتمة كاشفة
الوعي الجمعي المؤثر لخطر الإشراف على الهلاك. الرجل المطلوب والمحتفى به من قبل
الارض الخصبة والمقدس، رجل مزارع مسالم
مطمئن مرتبط بها وليس محاربا العالم أفقه، وهو رجل قوي مدجن تحكم روحه امرأة تحتل إرادة
قلبه ومصير مسيره وتلَون له خيره وباطله.
رجل بقلب إمرأة.
عندما يدخل الأجنبي القوي الذي درعه القتال وهو كره
لضعيف أهله، به يؤمن ويتصرف وبقيمه يتنفس هواء الحرب، والقوة، وعدم الخضوع، والبحث
الدائم، والمغامرة وعدم الارتهان للوهن والتحلل والاستقرار، وفي سماء مسيره يرفع
راية السيد والمسود شعارا – عندما يدخل على سجيته وفطرته فاتحا مجتمع تحكمه السلطة
الانثوية وليس رجلها القوي وألوانه، تكون النتيجة المرسومة خطوطها في أفق التاريخ،
ولو بعد حين، تبعية المرأة القوية الحاكمة، لغريزتها المتوارية خلف الاقنعة، وهنا
يمكن التحدث عن الثقافة نفسها، إلى ذلك الأجنبي الغازي الذي تسري في دمائه دم حكم
قائم على منطق القوة والسيادة والخضوع لمشيئة أمره. مع طوي صفحات الأيام التي خلت
وبزوغ نار روح مقاتلة تتسيد حيث الأولى
أفلت، تشرع روح الرجل القوي الغازي المنتصر وبحكم غريزتة الحاكمة، بمحو آثار
الحضارة القديمة التي أتت من لون المرأة ويستبدلها بقيم حضارته الذكورية في طبقة
الحكم والسيادة اولا، وفي باقي الطبقات الأدنى تباعا. في هذا يستخدم من الأدوات ما
يتواؤم وما يتطلبه الامر من إخضاع عسكري مباشر أو غيره، أو إخضاع القيم الأضعف وتفكيكها
ودحرها، أو إخضاع رب القوم ورمزهم ومقدسهم للرجل القوي وقيمه ومخالبه، أو مسح آثار
القيم القديمة عبر انبات وتفريخ قيم جديدة محل تلك القديمة، بواسطة اناس من قوم
الحضارة المتمرقة في وحل هزيمتها، وعلى يد جماعة من أهلها يقوم القوم بالعمل الهادم
عبر الإجبار اولا، ثم عبر الاقتناع بعدمية محاولة المقاومة واستحالة الفكاك من قبضة
الشر الجديد، أو مسح التاريخ القديم ولغته وعاداته وطمس ألوانه ومرآته. في مصر
الفرعونية سهل الأمر كون الذي يحكم كان قيم المرأة وسلطة الأنوثة وألون خيرها
وباطلها وبالتالي فأن خضوع المرأة القوية للرجل القوي الأجنبي وتبعيتها، أسهل من
خضوع رجل قوي مهزوم وتسليمه لرجل آخر هزمه.
في هذا يكمن سر زوال الثقافة الفرعونية الحاكمة بعد
غزو قلب دارها، واستمرار حضارات أخرى إلى يومنا هذا حتى بعد هزيمتها من قبل حضارات
أخرى في ميدان الحرب والعسكر، حيث يمكن الكشف عن علاقة حضارات تعيش اليوم مجدها مع
احتفاظها بجذور حضارتها الأم وثقافتها، ولا يمكن القول أن هذا ينطبق على الحضارة
المصرية القديمة ومصيرها البائس الكئيب. هزيمة جسد الحضارة وليس عقلها وروحها أمر يمكن تداركه. في الحالة
الأولى تستمر الحضارة ولو كان جثمانها مقيدا بقيود الأجنبي الغازي ومن غائر الجرح
ينزف، أما في الثانية تندثر الحضارة عن بكرة أبيها وتدخل حيز الماضي القديم
المندثر.
حضارة تقدم فروض الطاعة لإمرأة... حضارة يختلط في
قلب قويها غوجه وشاربه... حضارة الحكم فيها للون الأنثوي واحتقار لنار المغامرة الواثبة...
حضارة مصيرها إلى الزوال إن آجلا أو عاجلا.
الفرعونية... ثلاثة آلاف عام من التقدم والذكاء والجمال
والعلم والمثالية الرومانسية الحالمة في رحاب الأنوثة الحاكمة انتهى مصيرها إلى
تحت التراب... دفنت قلبها حيث وضعت بيض هلاكها... لون التف حول عنق صاحبه بعد ان
لوث دم حكمه... حضارة قتلت ذريتها يوم أطلقت على سمها اسم العسل... تشرب منه كأس
فنائها... وتقتل براءه عنفوانها وتوقه وتنشد له ترنيمة مصيره... فرح مظلم لونه يمشي في
درب جنازته واندثاره.
زكي مبارك