منطق الكوانتم
الوجود في صورته المتجردة عصي على الإثبات من منظور مرآة
الوعي والإدراك البشري الذي يعتمد على مجساته الطبيعية وخيالها وأدوات العلم المادي التي بحوزته. لا يمكن إدراكه
بصورته المتجردة نظراً لنقص ذاتي في قدرة الوعي البشري على التجرد التام والمطلق
واليقيني– أي رؤية الوجود من منظور خارج مفهوم الوعي نفسه وإثبات ماهيته خارج حدود
إدراك العقل نفسه بصورة تجعل من تأثير الوعي نفسه خارج نطاق التأثير على نتيجة المشاهدة والتجربة. مما سبق يمكن القول أن محاولة فهم الوجود تستدعي وفق المنطق العلمي المادي تشويه الواقع المتجرد وإدخال البعد
النسبي كإطار له تجعل من الممكن الحصول على تصور للوجود بعد تدخل الوعي البشري في عملية
التصور ذاتها والتأثير على نتيجتها. وحيث أنه لا يمكن إدراك الواقع بصورته اليقينية ولا
يمكن إثبات تصور الوجود بصورته المطلقة المتجردة من تأثير العقل البشري يستحيل كل شيء حسب التصور العلمي المادي إلى أمر نسبي في
نطاق الوعي المدرك بما في ذلك نتيجة التجربة العلمية نفسها واستنتاجاتها. من أجل الشروع في رسم ملامح التصور المذكور يحتاج العلم إلى تصور آخر كإطار
خلفي أو مرجعية للتصور الجديد لكي تقف عليه قوانينه ونظرياته. أي خطأ مقصود لإبراز ألوان التصور الوجودي الجديد، بمعنى خلق حالة نسبية جديدة لوصف ظاهرة
جديدة متخيلة يراد إثباتها. ضمن هذه القيود يمكن للعلم أن يخلق ظاهرة الوجود بصورة
مشوهة قابلة للفهم والتجسيد في حدود قدرة اللغة والوعي البشريين على الوصف المدعوم ببرهان التجربة المساند للفرضية. ميكانيكا
الكوانتم في يومنا هذا تمثل في الوعي العلمي واحدة من أبعد ضفاف الاستكشافات البشرية وفي
أروقتها يتم الهمس بإعلان العلم عن عدم قدرته على وصف الوجود بصورة شاملة لا يرقى لها
الشك، ويصرح بلغة الرياضيات والتجربة المعملية بعدم القدرة على وصف الشيء نفسه كامل الوصف
والتفسير من دون التأثير علي نتيجة التجربة والمشاهدة، وفي هذا يعترف الوعي العلمي بمحدودية وصف ظواهر الوجود. في تفصيل هذا
الإعتراف يصرح رواد الاستكشاف أنفسهم أن في بحيرة الكوانتم يتلاشى نسيج الواقع المدرك ومعه أبعاده الاربعة،
ويضيق المنطق المادي عينه، ويدخل الوعي العلمي أبواب مشاهدات واحتمالات لا تاريخ لها إلا في حاضرها، لا يدركها العقل
البشري بكامل ماهيتها فهو قاصر عن وصف حالة لا وعي مادية بصورة تحفظ أسرارها من دون التدخل في خلق وعيها بصورة تشوه الحالة الأولى اللا واعية المنغلقة على نفسها والمفتوحة لكل احتمال. في الحالة المدركة والمحسوسة بمجسات
الوعي وأدوات العلم لا نرى ولا نعي هذا المنطق المادي اللا واعي ولكن همسات العلم تقول أن بداية هذا الكون كان حالة
كوانتمية، حالة أصولية تخضع لمنطق قوانين الكوانتم التي تحتمل الإحتمال فقط. وحيث أن هذا الأصل الكوانتمي لا منطق يقيني له في حياته الأولى وفق
المنظور العلمي السائد في يومنا هذا، نجد أن العلم لا يبحث عن هذا المنطق في يومنا
المعاش ولكن في ساعة نشأة الكون الأولى، وفي لحظة تكونه الأولى المفتوحة على كل إحتمال، وبالتالي فعلم اليوم عن الإحتمال فقط يبحث ويتحدث.
اكتشافات الكوانتم ومؤشرات تجاربه تقول أننا لم نفهم عالمنا هذا على على ماهيته الاقرب
إلى الواقعية الفعلية المتجردة، والحقيقة العلمية – الكونية والجزيئية – تتجه إلى
أن تكون معادلة رياضية تحمل يقين الإحتمال لا أكثر وهي بذلك تخلق تصور آخر جديد وواقع مشوه آخر. في هذا تظهر الحقيقة الكاملة مرة أخرى كخطأ وتصور مشوه وقاصر يكشف
حدود استطاعة الوعي البشري ووهن حيلته أمام أقنعة ظاهرة الحقيقة العصية على التفسير المتكامل والشامل، وهي وفق منظور علم اليوم ظاهرة لا وجود لها ولا يمكن إثباتها
بإستخدام قدرات العقل البشري وحده وأدواته المتاحة. ما لا يذكره أهل العلم صراحة أن العلم وصل إلى
سواحل الإيمان بعد برهة زمن من اليقين المادي الخادع المتمثل في وهم وجود حقيقة كاملة تنتظر الخضوع للوعي البشري والتصرف وفقًا لشروطه وقوانينه.
زكي مبارك